المراجعات الاقتصادية الكبرى.. الاختراع الاقتصادي الأخطر في القرن العشرين: الناتج المحلي الاجمالي

[\"???? ??????\" ?????] [\"???? ??????\" ?????]

المراجعات الاقتصادية الكبرى.. الاختراع الاقتصادي الأخطر في القرن العشرين: الناتج المحلي الاجمالي

By : Wael Gamal وائل جمال

في قلب الأزمة الاقتصادية اليونانية، التي هددت حقا البلاد بالافلاس، حولت سلطات الإدعاء رئيس الجهاز الإحصائي الرسمي في البلاد آندرياس جيورجيو للمحاكمة في مطلع عام 2013 وتم فتح تحقيق برلماني. أما التهمة فكانت أنه عدل نسبة عجز الموازنة من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن أعلن أن حسابات الناتج المحلي الإجمالي لليونان كان مضخمة ومبالغ فيها بأكثر من قيمتها بالربع على الأقل. قال جيورجيو، الوافد من صندوق النقد، إن مهمته كانت فقط تطبيق المعايير الأوروبية في تقدير وضع الاقتصاد، واتهمته السلطات اليونانية بأنه قدم بيانات تقلل من وضع الاقتصاد وزادت من الضغوط التي يقوم بها صندوق النقد والمؤسسات المالية على البلاد مما عرض "المصلحة الوطنية للخطر". 

 هذامسؤول كبير يحول للمحاكمة فقط بسبب تقدير الناتج المحلي الإجمالي وطريقة حسابه. لكن لاعجب.  ففي يناير 2000 أجرى مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي بحثا مسحيا لوزارة التجارة الأمريكية عن القرن العشرين، اعتبرت فيه الوزارة أن أهم إنجازاتها خلال مائة عام هو الناتج المحلي الإجمالي. بل إن المكتب اعتبر هذا المؤشر الإحصائي "أحد أعظم اختراعات القرن" عموما. ولهذه المبالغة ما يبررها.  لقد صار هذا المؤشر الإحصائي ذا أهمية بالغة في حياتنا اليومية. إن قرارا كتقليص دعم الطاقة أو إعادة النظر في أسعار الغذاء يتأسس على نمو الناتج المحلي الإجمالي وعلى نسب مشتقة منه كنسبة عجز الموازنة التي تصل إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر. كم مرة يتحدث عنه المسئولون في الحكومة على أنه المفتاح لتحسين أجورنا أو توفير الخدمات العامة من عدمها؟ كم مرة قرأنا مانشيتات تتحدث عن إنجاز أن معدل نمو الناتج المحي الإجمالي قد وصل لسبعة في المائة في عهد حكومة نظيف وكيف أن هذا يعني نجاحا اقتصاديا "ملموسا". كم مرة يقال لنا إن وضعنا في مصر أسوأ من تركيا بسبب حجم الناتج المحلي الإجمالي أو أن البطالة تزيد لأن نموه لا يتسارع بالشكل الكافي؟

لقد أصبح مجرد التوقع فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي يؤثر على بل ويسيطر على جزء من النقاش السياسي ويحدده، وترتفع حظوظ الحكومات وتنخفض بمقدار ما يرتفع نمو الناتج المحلي الإجمالي 0.1% أو ينخفض. الناتج المحلي الإجمالي صار جزءً من حياتي وحياتك يتحكم في مصيري ومصيرك. الناتج المحلي الإجمالي من تاريخه "هو طريقة لحساب ومقارنة إلى أي درجة الأداء الاقتصادي لدولة ما حسن أم سيء"، تقول ديان كويل الاقتصادية البريطانية والمستشارة السابقة لوزارة الخزانة البريطانية في كتابها الصادر في يناير 2014 تحت عنوان "الناتج المحلي الإجمالي: تاريخ قصير لكن عاطفي" عن دار نشر جامعة برينستون الأمريكية. هذا المؤشر الخرافي، الذي يبدو أنه من حقائق العصر الثابتة يقيس كل ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات نهائية في بلد ما خلال فترة زمنية محددة عادة ما تكون وحدتها الأصغر ثلاثة أشهر. ويمكن قياسه بثلاثة طرق يفترض أن تتساوى: ناتج الاقتصاد، أو الإنفاق في الاقتصاد، أو الدخول.لكن كويل في كتابها القصير الممتع تنزع القداسة عن تلك الإحصائية التي يبدو وكأنها تتحكم في توجيه دفة ومسار حياتنا الآن."ليس هناك شيء قابع هناك في العالم الحقيقي ينتظر أن يتم قياسه من قبل الاقتصاديين. هو فكرة مجردة، صارت معقدة جدا بعد حوالي نصف قرن من النقاش ومن وضع المعايير على مستوى دولي". وتضيف كويل خلاصة كتابها الذي يستعرض تلك الإحصائية كظاهرة تاريخية: "لا يتعلق الأمر هنا بقياس ظاهرة طبيعية مثل مساحة أرض، أو درجة الحرارة بمستويات متفاوتة من الدقة".

ترصد ديان كويل في كتابها العملية التاريخية المركبة التي راكمت جهود مئات الاقتصاديين علي مدى سنوات لتطوير الناتج المحلي الإجمالي بدءً من محاولات العالم والمسئول البريطاني ويليام بيتي في 1665، والذي قدم تقديرات للإنفاق وعدد السكان والأرض وأصول أخرى في انجلترا واسكتلندا. وتمر ديان كويل بالمحطات المختلفة منذ ذلك الحين لمحاولة قياس الآداء الاقتصادي (آدم سميث والتركيز على الإنتاج المادي الذي سيطر على حسابات القرن التاسع عشر للدخل القومي ثم الجيل الجديد من الكلاسيكيين الجدد الذين نبذوا التمييز بين الأنشطة الإنتاجية وغير الإنتاجية). 

لكن الناتج المحلي الإجمالي بتعريفاته ومدلولاته، كما نعرفه الآن، هو اختراع حديث وابن لتطورين مهمين في القرن العشرين: الأزمة الاقتصادية العالمية في الثلاثينيات، والحرب العالمية الثانية (1939-1945)."لقد خلقت تجربة الكساد الكبير هذا الطلب على إحصائيات قد تساعد الحكومة لمعرفة كيف يمكنها إنهاء هذا التراجع الاقتصادي غير المسبوق"، يقول كتاب كويل. هكذا تسارعت المحاولات على جانبي الأطلنطي: في الولايات المتحدة عمل الاقتصادي الحاصل على نوبل سايمون كوزنيتس علي تلبية الاحتياج المتزايد لدى حكومة الرئيس فرانكلين روزفيلت لإيجاد صورة أوضح للاقتصاد الواقع في فخ يبدو وكأنه لا فرار منه. أخذ كوزنيتس على عاتقه تقديم تقدير متماسك للدخل القومي ليقدم تقريره الأول للكونجرس الأمريكي في 1934، والذي أظهر أن دخل أمريكا القومي قد انخفض للنصف بين 1929 و1932. (كان هذا التقرير الذي بلغ سعره 20 سنتا من ضمن الكتب الأكثر مبيعا في وقت الكساد). اعتمد روزفيلت في برنامج التعافي الاقتصادي على أرقام كوزنيتس. لكن كوزنيتس لم يكن يقيس الناتج بل كان يقيس"الرفاه"، ومن ثم كان يرى أنه من الضروري خصم كل الإنفاق على التسليح من الدخل القومي إلى جانب العديد من أوجه الإنفاق الأخرى كالاعلانات ونفقات الأنشطة المالية المتعلقة بالمضاربة. تقول كويل إن هذه الملامح تشير للانتقادات التي صارت توجه للناتج المحلي الإجمالي حاليا من حيث إنه لا يقيس الرفاه وهو ماكان فيه كوزنيتس سابقا لعصره.لكن بمجرد بدء الاقتصاديين في تطوير مفهوم متكامل للناتج المحلي الإجمالي، جاءت الحرب، وصار للحكومة وجود في الاقتصاد أكبر مما كان عليه قبل ذلك. “وصار خصم الإنفاق العسكري  يعطي الإنطباع أن المجهود الحربي تضحية كبيرة في الإنفاق الاستهلاكي الخاص”، كما تقول كويل. وبناء على أطروحات الاقتصادي البريطاني البارز جون ماينارد كينز، الذي قدم وصفة تتدخل فيها الدولة بالانفاق لخلق طلب فعال ينهي الكساد، كلفت وزارة الخزانة البريطانية اقتصاديين شابين هما ريتشارد ستون وجيمس ميد لتطوير ما صار أول نموذج حديث لإحصائيات الدخل القومي والناتج المحلي الإجمالي. وبعد انتهاء الحرب لخصت لجنة خاصة التوصيات المتعلقة بحساب الناتج المحلي الإجمالي في اجتماع بنيويورك في مايو 1946 بالنيابة عن الأمم المتحدة لتخلق بذرة النموذج الرياضي لتقدير حالة الاقتصاد، الذي يعيش معنا حتى الآن.

ولم يتوقف التطوير والتغيير من ساعتها للآن لسد الثغرات المختلفة، مما يجعل من عملية حساب الناتج المحلي الإجمالي عملية معقدة للغاية، لكنها تظل عملية تقوم على نموذج رياضي له افتراضاته وأوجه قصوره.تضرب ديان كويل نموذجا بما حدث في غانا عام 2010. حينها كانت غانا تعد دولة تنتمي للدول منخفضة الدخل، وبالتالي كانت تتلقى مساعدات دولية وتعامل تجاريا بصفتها كذلك. لكن بين 5 و6 نوفمبر 2010، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لغانا بحوالي 60% أي في يوم وليلة لتنتقل إلى مصاف الدول متوسطة الدخل. لم يتغير واقع الحال في غانا لكن النموذج الإحصائي وافتراضات حساب الناتج المحلي الإجمالي تغيرت. ويبدو أن نفس الشيء قد يحدث في نيجيريا أيضا وهو ما يتوقع أن ينقلها إلى حجم يوازي الاقتصاد الأكبر في القارة: جنوب أفريقيا.ولا يمكن فصل الافتراضات ولا الطرق الحسابية وتفضيلات الإحصائيين عن السياسة.

فمنذ اللحظة الأولى تقول كويل إن اختراع الناتج المحلي الإجمالي كان مرتبطا بالحرب ضمن اختراعات أخرى كثيرة. لكنها تضرب مثلا صارخا في الطريقة التي تؤثر بها تقديرات الناتج المحلي القائمة في النهاية على افتراضات بشر (برغم كل التطور في تقديم معايير عالمية له) بما حدث في بريطانيا في منتصف السبعينيات. كان العقد مأساويا على بريطانيا التي تضخم عجزها التجاري بدرجة صارت تؤثر على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الخارجية وعلى استيراد احتياجاتها. وتراجع الجنيه الاسترليني بقسوة. تقدم صندوق النقد ليقدم الحل لحكومة حزب العمال: قرض مقابل تقليص نسبة عجز الموازنة من الناتج المحلي بشكل ملموس. نفذت الحكومة الخطة وقلصت الإنفاق وفصلت عمالا وموظفين. وبعدها بثلاثة أعوام في 1979 تم انتخاب مارجريت تاتشر لتبدأ مسيرة السياسات الليبرالية الجديدة في بريطانيا وربما العالم. تقول كويل "لاحقا، تمت مراجعة أرقام الاقتراض والناتج المحلي الإجمالي ليظهر أن الأزمة لم تكن بهذا السوء، وعلق وزير الخزانة العمالي بعدها قائلا: لو كانت لدينا الأرقام الصحيحة لم نكن أبدا لجأنا لهذا القرض. ومن يعرف إذا ماكانت السيدة تاتشر ساعتها ستحوز النصر الانتخابي الذي حصلت عليه لو أن سابقها لم يجلب صندوق النقد". 

وهكذا فإن إعلان هاني قدري وزير المالية في حكومة محلب (الموظف السابق في صندوق النقد الدولي) بمجرد توليه منصبه قبل أشهر عن ضرورة إعادة النظر في افتراضات حساب عجز الموازنة المصرية وكلامه عن أن الحساب الدقيق يرفعه لأكثر بكثير من وضعه حاليا يجب أن يعالج ليس كقضية فنية وتقنية فحسب بل هو قضية سياسية من الطراز الأول تجهز الأرض لأي نقاش في السياسة الاقتصادية وحدودها في الحاضر والمستقبل.رحلة تراجع: مشاكل الناتج المحلي وبدائله في أي كتاب مدرسي في الاقتصاد ستجد إشارة سريعة إلى بعض حدود الناتج المحلي الإجمالي: لا يقيس إلا ما له سعر في السوق وبالتالي يستبعد كل الأنشطة التي تتم بدون أجر كإنتاج فلاح لطعام أسرته. وهنا يضرب المثل التاريخي أنه لو تزوج رجل من المرأة التي تعمل لديه ويعطيها أجرا فصار لا يعطيها هذا الأجر على ما تؤديه من عمل تم خصم ذلك من الناتج المحلي الإجمالي. ليس هذا فقط بل ستجد أيضا أن الناتج المحلي الإجمالي يستبعد ما يسمى بالاقتصاد غير الرسمي، وفي حالات كمصر هذا النوع من النشاط له أهمية كبيرة. صحيح أن بعض الدول صارت تضيف هذا القطاع كما فعلت إيطاليا في لحظة ما لكن تقديراته الدقيقة تخرج من إطار هذه الإحصائية التي تبدو محكمة. ضف إلى هذا التكلفة البيئية للنمو أو نضوب الموارد التي لا توضع في الحسبان في هذا التقييم لحالة الاقتصاد. ناهيك عن أن متوسطات نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا تعكس حقا نصيب الفرد إذ أنها مؤشر إحصائي يخفي التفاوتات الهائلة بين المواطنين في الدخل والثروة.كل هذا معروف وقديم ومرصود ممن لا يتوقفون عنده كثيرا من التيار السائد في الاقتصاد والاقتصاديين الذين يقدمون الناتج المحلي الإجمال كحقيقة علمية ثابتة.

لكن مرة أخرى كما كانت أزمة الثلاثينيات سببا في اختراع الناتج المحلي الإجمالي كانت أزمة 2007-2014 سببا في إعادة النظر فيه من جانب التيار المهيمن سياسيا وطبقيا واقتصاديا: لأنه لم يوفر للحكومات والبنوك المركزية دليلا كافيا لإيقاف الأزمة ومواجهتها بالسياسات الملائمة، تلك الأزمة التي تسببت في خسارة ناتج يصل لخمسة أضعاف الناتج المحلي في العالم كله "مما سيترك ندوبا في جيل بأكمله"، بحسب كويل. "لقد طرحت الأزمة أسئلة مهمة عن التمويل والأنشطة المالية في البورصة وأسواق المال وكيف يتم حسابها في الدخل القومي، كاشفة الحجاب عن أنشطتها التي تتراوح بين الحماقة وبين الفساد والنصب، مما جعل هناك شك فيما إذا كان هذا القطاع يقدم مساهمة إيجابية أصلا في الناتج المحلي". قارن ما تقوله كويل هنا بحجج المعارضين بكل صرامة لفرض ضريبة ولو محدودة كالتي طرحتها حكومة محلب على أنشطة البورصة المصرية وكأنها بمحدودية عدد الشركات المسجلة فيها وضعف نسبة قيمتها السوقية من الناتج المحلي هي الاقتصاد ونافذته الوحيدة أو الأساسية.

كتب جون جيرتنر في جريدة نيويورك تايمز الأمريكية بتاريخ 13 مارس 2010 تحت عنوان"صعود وسقوط الناتج المحلي الإجمالي" أنه "طبقا لما سمعته من الاقتصاديين بين إيطاليا وفرنسا وكندا فإن الناتج المحلي الإجمالي لم يفشل فقط في التقاط درجة رفاه المجتمع في القرن الحادي والعشرين بل قدم صورة محرفة للأهداف السياسية عالميا في اتجاه مطاردة محدودة الرؤية للنمو الاقتصادي". ويقتبس جيرتنر عن أليكس ميكولاس الاقتصادي السابق بجامعة نورثرن بريتيش كولومبيا أن الاقتصاديين أفسدوا كل شيء. وبدأ جيرتنر العمل على مقياس للرفاه مواجه للناتج المحلي الإجمالي قائلا إن "العائق الأساسي وراء التطوير هو أن الوكالات والهيئات الإحصائية عبر العالم يديرها الاقتصاديون والإحصائيون، وهم أناس لا يستريحون مع الكائنات البشرية". يخبرنا الناتج المحلي الإجمالي شيئا معقولا عن الاقتصاد لكنه لا يخبرنا شيئا تقريبا عن أشياء محددة في حياتنا ربما هي التي تهم أكثر، يضيف جيرتنر.محاولة ميكولاس لم تكن الوحيدة.

أولا ظهرت محاولات تنتقد الناتج المحلي الإجمالي ليس فقط من منظور حسابي وإنما أيضا فلسفي لأنه يساوي بين النمو وتقدم البشرية. وربما كانت أولى المحاولات في هذا الاتجاه هي مقياس التنمية البشرية الذي مر عليه أكثر من عشرين عاما الآن، والذي يضيف للناتج المحلي الإجمالي التعليم والصحة. وتستخدم الأمم المتحدة هذا المقياس الذي تجري عليه تطويرات مستمرة.ثانيا، ظهر ما يسمى بمقاييس لوحة العدادات. وأبرز مثال علي هذا هو اللجنة التي شكلها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وسميت لجنة ستيجليتز -صن - فيتوسي (لجنة قياس الاداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي). واستنتجت اللجنة، التي تضع كل مقرراتها على موقعها على الانترنت أن الاقتراب الأفضل من محاولة جمع كل المؤشرات ذات المغزى في مؤشر واحد هو جمع ونشر إحصائيات نطاق من المؤشرات يمكنها معا أن تشكل صورة أشمل وبوصلة أفضل لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي المنشود من مواطني الأرض. وبدأت بعض الدول بالفعل في تبني هذا الأسلوب كأستراليا.وثالثا، بدأت أصوات متعددة تنادي بإعادة النظر في هدف النمو الاقتصادي كمدخل للنجاح والحياة الأفضل، فالناس أسعد في الدول الغنية لكن هؤلاء لا يزدادون سعادة بزيادة النمو فحسب. وأطلق هذا المنهج الفلسفي محاولات لقياس السعادة في المجتمعات.ورغم أن ديان كويل في كتابها تظل تدافع عن قيمة الناتج المحلي الإجمالي ودوره على مدى العقود الماضية إلا أنها تعترف أنه "منتج يخص عالم القرن العشرين" وأنه ينبغي البحث عن بديل يستوعب تطورات القرن الحادي والعشرين وعلى رأسها الابتكار التكنولوجي والتزايد المستمر في دور قطاع الخدمات. لكن أهم ما يقدمه هذا الجدل العالمي المستعر هو أن هذا المؤشر هو منتج بشري ابن لتطور الرأسمالية ومصالح المسيطرين على شئونها وأنه لا يحوز أي سلطة فوق طبيعية كالتي تعطى له بل ربما ينحاز من يعدونه وتنحاز افتراضاتهم لمصالح القلة المسيطرة سياسيا واقتصاديا وماليا فيصبح سلاحا أيديولوجيا كاذبا. وهذا أمر هام لمن يرغبون في خوض معركة إعادة توزيع الثروة، معركة العدالة الاجتماعية، معركة الديمقراطية، وسيطرة المنتجين على شئونهم، معركة الحق في التقدم وفي السعادة.

[عن موقع "أصوات مصرية" ]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • لماذا يتواصل المشروع النيوليبرالي في المنطقة العربية؟

      لماذا يتواصل المشروع النيوليبرالي في المنطقة العربية؟
      كانت مطالب العدالة الاجتماعية وتغيير دفة السياسة الاقتصادية لصالح الأغلبية التي تعاني من اللا مساواة والتهميش في القلب من الانتفاضات الجماهيرية التي شهدها العالم العربي بدءا من أواخر 2010. لكن حتى في
    • "هنا ينام "الاستقلال الوطني

      "هنا ينام "الاستقلال الوطني
      «مصر تخوض أكبر معركة استقلال وطني منذ أيام عبدالناصر»، يخبرنا ابن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى حوار نشر نهاية سبتمبر الماضي فى جريدة التحرير. لا ينفرد المهندس عبدالحكيم وحده بهذا التقدير. بل أمطرت
    • No Jasmine Tea for the Square

      No Jasmine Tea for the Square
      Who exactly is making politics in Egypt these days? There are so many possible answers to the question. One perspective, which is both new and not so new, views politics as the purview of only the ve

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]